عمل المشرع المغربي مع بداية الألفية الثالثة على إدخال جملة من التعديلات، همت بالأساس اعادة هندسة بنية الأسرة المغربية، وذلك بما يتلاءم مع منطق الاتفاقيات الدولية دون إثارة غضب المرجعية الاسلامية. هكذا ثم إصدار مدونة الأسرة في 3 فبراير 2004 وذلك بموجب القانون رقم 70.03، التي جاءت نتيجة الحراك المجتمعي، فيما كان يعرف ب ” خطة اعادة ادماج المرأة في التنمية “.
بيد أن الحمولة الإيجابية لهذه المدونة لم تخف بين طياتها بعض الانزلاقات التشريعية، والتي أثبتت الممارسة القضائية مدى خطورتها وكلفتها الاجتماعية. ونخص بالذكر ظاهرة تزويج الطفلات، التي شهدت سنة 2010 تسجيل ما مجموعة 34777 إذن بزواج ما دون سن الأهلية، وذلك حسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل والحريات. كما عرف قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية بمكناس تسجيل ما مجموعة 74 إذن بزواج قاصر خلال شهر واحد فقط (شهر ماي 2012)، وهذا يدل على أن الحكومة لم تتعامل مع إشكالية تزويج الطفلات بالصرامة المطلوبة.
فهناك بعض القضاة الذين حولوا الاستثناء إلى قاعدة والقاعدة إلى استثناء، أي العودة إلى ما كان مطبقا في عهد مدونة الأحوال الشخصية السابق، وعوض أن يكون تزويج الطفلات هو الاستثناء، يلاحظ من خلال الأرقام المعلنة من مجموعة من المحاكم المغربية، أن النسبة غالبة لطلبات الإذن لزواج القاصرات تحظى بالموافقة، فيما ترفض نسبة قليلة و تؤخر أخرى لاستكمال الإجراءات، و هو ما يثبت عدم احترام المذكرة الوزارية الداعية إلى تحديد السن في حالات الاستثناء في سن 17 ، و كذا انعدام مواقف موحدة في المحاكم، و غياب النيابة العامة كطرف أصل في دعاوي الأسرة بغيابها عن الجلسات و اقتصار تدخلها على ملتمسات كتابية تطالب فيها بالحفاظ على القانون .
وحين يبرر قاض في محكمة أسرة بأي مدينة إذنه بزواج طفلات ب”الإحصان” و”ردءا للفساد” فإنه بطريقة مباشرة حد التصادم وجها لوجه، يعبر عن رأيه في المرأة المغربية ويجسد العقلية الذكورية المتحكمة، فيقول أنها مجرد عورة وسترتها الرجل، و يجتر فكرة أن المرأة المغربية منذ ولادتها عارية و لباسها الزوج، مصيبة و قوامها الرجل، واستقامتها بيت الزوجية.
ولا يمكن وضع كل قضاة محاكم الأسرة في سلة واحدة، لأن هناك بالفعل قضاة يعملون بالمثل الشعبي “مئات تخميمة و تخميمة و لا ضربة بمقص ” والمقص هنا لا يقع على يد القاضي بل على يد المجتمع برمته، إذ حالة زواج قاصر فاشلة تجر على المحكمة قضية طلاق و قضية نفقة و قضية تشرد إن لم تقبل العائلة ابنتها المطلقة , قضية عنف … و غيرها من المشاكل التي يمكن علاجها في المهد، و الضربة الأكثر إيلاما، حتى في الحالات التي تنجح فيها هذه الزيجة، هي أن تعيد الأم الصغيرة تربية أبنائها على فكرة الزواج المبكر وتربي هي الأخرى أبنائها على التمييز الجنسي، و إن دور البنت في
المجتمع هو الزواج والإنجاب والتربية وما عدا ذلك فلا حق لها فيه، لا حق لها في متابعة دراستها ولا صناعة أحلامها الخاصة ولا الفشل والنجاح من أجل تحقيقها، ولا حق لها في المساهمة في تنمية بلادها كما الرجل سواء في مجلات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
وقد أكدت الإحصائيات ارتفاع نسبة قبول طلبات زواج القاصرات في سنة 2009 بالمقارنة مع 2008، إذ حظي مثلا في مدينة الفقيه بن صالح1380 من بين 1549 طلب زواج قاصر بالقبول، ورفض 126 ملفا فيما بقي 43 في إطار الإجراءات، والحال نفسه بالنسبة إلى مدينة ورزازات حيث حظيت نسبة 88% من الطلبات المقدمة بالموافقة. وليست الفقيه بن صالح و ورزازات المدينتين الوحيدتين اللتين ارتفعت فيهما نسبة القبول فيما تراجع عدد الملفات المرفوضة، بل تؤكد إحصائيات مدن أخرى الملاحظة نفسها.
ويعلل أغلب القضاة الذين وافقوا على تزويج قاصرات قراراتهم بمبررات من قبيل “الظروف الاجتماعية والاقتصادية لأسرة القاصر وكفاءة الخطيب المالية”، إذ يكفي أن يكون الخطيب ميسورا لمنحه إذن الزواج من قاصر معدمة، إذ يلح والدها على أنه غير قادر على الإنفاق عليها وأن زواجها سيحصنها، كما أن بعض الآباء يطالبون القاضي بمنحهم الإذن لأنهم عاجزون عن إعالة بناتهم، أو أن في الأسرة ثلاث بنات وعلى الأب تزويجهن مبكرا، إحصانا لهن. وليست عبارة “الإحصان ودرئا للفساد” وهي مبرر يحطم كرامة المرأة، وحدها ما يرد في تعليلات القضاة لمنحهم الإذن بزواج القاصرات، بل إنهم أحيانا، يبررون ذلك بالقول إن من واجبهم احترام أعراف قبائل معينة لأنه يتم الأخذ بها أكثر من القانون، وأن من مصلحة بناتهن الزواج، دون تحديد معيار هذه المصلحة. أما الحالات التي يدعي فيها أولياء الأمور أن بناتهم حوامل، فإن القاضي يكتفي بما يصرحون به ولا يجري أي خبرة طبية على القاصر، بل يأخذ بما صرح به ولي الأمر، ويأذن بزواج الفتاة حماية لحقوق الطفل، ويأذن بزواج الفتاة حماية لحقوق الطفل، في حين يتجاهل أنها هي نفسها طفلة بقوة القانون، وهي طريقة يلجأ إليها بعض الآباء لوضع القاضي أمام الأمر الواقع ويجبرونه بذلك على قبول الطلب.
ورغم أن مدونة الأسرة تتحدث عن إلزامية إجراء خبرة طبية عند الحالات الاستثنائية لتزويج القاصر، لتأكيد إن كانت المعنية بالأمر قادرة جسديا ونفسيا على الزواج، فإن أغلب القضاة لا يطالبون بها، ويكتفون ببحث يجرونه مع القاصر، إذ تحضر رفقة ولي أمرها لتجد نفسها أمام جملة من الأسئلة يطرحها عليها القاضي وهو في الآن ذاته يعاين بنيتها الجسدية. وهو ما تعاتب عليه الجمعيات النسائية بعض القضاة الذين يحكمون على قدرة الفتاة انطلاقا مما عاينوه بالعين المجردة، رغم أن ذلك من اختصاص الأطباء، كما أنهم يطرحون سؤال الموافقة من عدمها على الفتاة أمام والديها، ما يجعلها توافق دون إرادتها، إذ لا يجري البحث في ظروف تتوفر فيه شروط الرفض أو القبول، ولا تكون فيها الفتاة حرة للتعبير عن رأيها بصراحة دون أن تقع تحت ضغط حضور والديها اللذين قد يكونا إرغامها على هذا الزواج. وهو واقع يعجل بمطلب إحداث أقسام لأخصائيات اجتماعيات وتوفير بنيات خاصة بهن في محاكم الأسرة.
وتؤكد الأرقام المرتفعة في منطقة والمتذبذبة في منطقة أخرى على غياب استراتيجية واضحة للدولة في تطبيق مدونة الأسرة من جهة وإن عقليات القضاة هي المتحكم في تطبيق بنود مدونة الأسرة وليس القانون من جهة أخرى، ففي الوقت الذي قد تجد فيه محكمة معينة نسبة مرتفعة لزواج القاصرات، قد تنخفض وتتصاعد في السنة الموالية، حسب القاضي الذي وضعت بين يديه طلبات الزواج، لذاك على وزارة العدل أن تعمل على تطبيق مذكرتها المتعلقة بوضع سقف لا يجب تخطيه و هو سن 17 سنة، في ما يتعلق بالحالات الاستثنائية لتزويج الطفلات ، و ما عدا ذلك فيجب رفضه، كما يجب أن تتخذ الحكومة إجراءات أخرى في ما يتعلق بتوثيق عقود الزواج وهذا مشكل كبير يتحايل فيه البعض على القانون من أجل تزويج طفلات إذ يتم تزويجهن في البداية بالفاتحة ثم يفرضون على الدولة توثيق هذا الزواج في ما بعد و هذه هي الاستراتيجية التي على الدولة أن تعتمدها و أن توحد مواقف المحاكم المغربية و أن تلزم القضاة بتطبيق القانون ما دام بعضهم قاصرا عن تكييف سلطاته التقديرية مع ما يخدم المجتمع ككل.